الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
مسجد العادلية أحد المساجد المهمة في مدينة حلب، في عهد السلطان سليمان القانوني، وسُمِّي المسجد بالعادلية لأنه مجاور لدار العدل.
مدينة حلب من المدن التاريخية العريقة، ويؤكد علماء الآثار وجودها منذ حوالي الـ 5000 سنة، وهي ثاني أهم المدن السورية بعد دمشق، وتتميز بالآثار الكثيرة المتنوعة في أقصى الشمال الغربي من الهضبة السورية الداخلية، ولها مكانة كبيرة عبر التاريخ الإسلامي منذ فتحها على يد أبي عبيدة رضي الله عنه، وعبر كل العصور إلى أن أصبحت حاضرة الدولة الحمدانية وكان عصرها الذهبي فترة حكم سيف الدولة، وظلت مكانتها في عصر الدولة المرداسية، وزادت أهميتها كثغر كبير لمواجهة الصليبيين منذ ضمها عماد الدين زنكي وأصبحت بعده مقر حكم نور الدين قبل توسعه في كل الشام، ثم أضحت جزءًا من الدولة العثمانية عام 1516م، وهي عاصمة سوريا حينئذٍ.
أما مسجد العادلية فهو أحد المساجد المهمة في مدينة حلب، وتمَّ إنشاؤه عام 963هـ= 1555م في عهد السلطان سليمان القانوني، والمؤسِّس له محمد باشا بن أحمد باشا والي حلب آنذاك، وسُمِّي المسجد بالعادلية لأنه مجاور لدار العدل أو مبنى الحكومة الإداري، وقد كان المسجد كان مؤسَّسة وقفية كبيرة.
والوقفية ذاتها حضارية للغاية، وفيها تفصيلات دقيقة توضِّح طريقة الإنفاق على كلِّ العاملين بالمسجد؛ بدايةً من المتولي الذي سيدير عملية الوقف، ومرورًا بالكاتب الإداري، والجابي للأموال التي ستنفق على الوقف، وخطيب المسجد، وسبعة حفَّاظ للقرآن الكريم، وإمامين للتناوب على الصلاة، وثلاثة مؤذنين، ورجلًا يدعو بعد ختم القرآن، وعاملَين للنظافة، وبوابًا، وخادمًا لبيت الخلاء، فضلًا عن تحديد الأموال المتجهة للإنفاق على زيت قناديل الجامع، وللحصير، وللشموع، وكذلك الأموال المخصَّصة للترميم، فضلًا عن توجيه الفائض لأعمال البر المختلفة.
أيضًا توضِّح الوقفية كيفية الإدارة، وانتقالها من واحد للآخر، وعلى الرغم من التفاصيل الممتعة لهذه الوقفية إلا إننا في هذا المقال لن نتحدث عن هذا الوجه الحضاري، إنما سنخصِّص المقال للحديث عن تقنية الصوتيات المعمارية التي استُخدمت في بناء هذا المسجد، وهذا يجرُّنا للحديث عن مهندس هذا العمل، وهو المعماري سنان، كان من أعظم المعماريين في التاريخ، وكان يقارن بمايكل أنجلو في الغرب، وكان يسبقه بعقود قليلة، وقد أنشأ سنان أكثر من أربعمائة عمل عملاق منها ثلاثمائة ما زالت موجودة حتى الآن، ومنها هذا الجامع، وهو مثال لتوضيح براعة المهندسين المسلمين في بناء المساجد الكبرى بصورة توصِّل الصوت إلى كل مكان فيه.
عرف المسلمون أن الصوت ينعكس عن السطوح المقعَّرة، ويتجمَّع في بؤرة محدَّدة عن طريق ظاهرة الصوت الزاحف شأنه في ذلك شأن الضوء الذي ينعكس عن سطح مرآة مقعرة، وهذه البؤر تكون بؤر ساخنة بينما ينعدم الصوت تقريبًا في أماكن أخرى تسمى البؤر الميتة، وتكون مهارة البناء المعماري المعتمد على دراسة علمية هي الإكثار من هذه البؤر الساخنة التي تتيح السماع لعدد أكبر من الحضور.
ولهذا كانوا يصممون قبة خاصة فوق مكان المحراب لتضخيم صوت الإمام، ويصممون كذلك سقف المسجد وجدرانه على شكل سطوح مُقَعَّرَةٍ، موزَّعة في زوايا المسجد وأركانه بطريقة دقيقة؛ تضمن توزيع الصوت بانتظام على جميع الأرجاء، أيضًا استخدم المهندسون المسلمون نظام المحاريب المُجوّفة التي تُساعد على تجميع صوت الإمام وتكبيره، وإيصاله إلى المصلين الذين يوليهم ظهره أثناء الصلاة.
هذا كله يتفق مع القاعدة الذهبية في العمارة وهي أن الشكل يخدم المضمون، ويتفق مع النظرية الوظيفية في العمارة التي تقوم على مبادئ أساسية هي المنفعة والمتانة والجمال، ويُنسب الآن علم الصوتيات المعمارية إلى العالم الأميركي والاس سابين، ومع ذلك فالمسلمون سبقوه بقرون في هذا الأمر، ولا يمنع أن يكون سابين قد رسَّخ أصول العلم بشكل أكاديمي، وأضاف إضافات كبرى، لكن لابد من نسبة السبق لأهله.
ولكي نَقِفُ على مدى أهمية تطوير المسلمين لتقنية الصوتيات المعمارية، تكفي الإشارة إلى أن خاصية تركيز الصوت، التي لفتوا الأنظار إلى فوائدها التطبيقية، تستخدم في الحضارة المعاصرة كجزء أساسي من هندسة الصوتيات المعمارية؛ حيث تزوَّد المسارح وقاعات الاحتفال الكبيرة بجدران خلفية مقعَّرة تعمل على ارتداد الصوت وزيادة وضوحه[1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك